الاستقالة بين الاحتراق الوظيفي والعودة للحياة


قرأتُ في كتابٍ موقفاً طريفاً يقول فيه كاتبه:

 "عندما كنتُ أعزباً كنت أسأل نفسي كل يوم: هل أُقدم على الاستقالة من وظيفيتي التي أذهب إليها مرغماً عني لأبحث عن وظيفة أخرى؟ وقد اعتقدت مسبقاً أن الحال سيتغير بعدما أتزوج؛ وسيصير الدافع للذهاب إلى العمل أقوى، وبالفعل! تغير الحال، وصرت أنا وزوجتي كل صباح نتساءل نفس السؤال معاً، بعد أن كنتُ أضيع في متاهاته لوحدي! "

ضحكتُ كثيراً عند استذكاري لهذا الموقف، رغم أني لست متأكدة حتى اللحظة إذا ما قرأته بهذا النص تماماً، لأني أمتلك ذاكرة جيدة في الغالب، لكن عندما تلامس عاطفتي طرفة كهذه، فهي بكل تأكيد قد فسحت لي المجال بأن أكمل بعض تفاصيلها وفقاً لتخميني ووفقاً لمشاعري المرافقة، وربما عبث بها خيالي عند صياغتها.. 

سؤال الاستقالة الذي يضل يدور داخل رؤوسنا كل صباح عند الاستيقاظ من النوم، مضحك عندما نشاركه مع الأصدقاء والمعارف، مبك عندما نطرحه على أنفسنا، ونقف وحيدين أمام حقيقته المثقلة.

المهم، هذا ليس حديثنا، حديثنا عن الاستقالة حينما تتحول من فكرة أو خاطرة خطرت لك منذ زمن إلى حاجة ملحة وقرار مؤرق يتوجب عليك مواجهته والخوض في أمره بجدية.

قبل سنة ونصف السنة تقريباً، كنت أعاني شعورياً في وظيفتي السابقة، قدمت عليها في الوقت الذي لم تكن بقية الوظائف لتخصصي تتوافق مع متطلباتي أو تفسح المجال لأمارس تخصصي بالشكل الذي يرضيني أو يعود بالنفع عليّ فيخدم أهدافي المستقبلية وظروفي الحالية، لذا فقد قبلت بأقربها توافقاً مع رؤيتي - كما كنت أظن- وأقربها وصولاً لكنها كانت أفقرها مردوداً نفسياً وشخصياً.

 ومع الوقت ومرور بضع سنين تحولت بيئة العمل إلى مكان ميت، معدوم التطور؛ العقليات الفكرية جامدة وشعوري بهيبة المكان كصرح علمي وفكري وثقافي بدأ يتلاشى لأسباب كثيرة، حتى صارت بيئة العمل بيئة سامة كانت قبلها بيئة ميتة، متجمدة، والمردود المعنوي والمادي لا يكاد يذكر مقابل المشقة والعناء اللذان كنت أشعر بهما كل يوم أذهب فيه إلى مقر العمل! زد على ذلك، ضبابية المستقبل وتلاشي الأهداف والمكتسبات على جميع الأصعدة.

لذا فالسؤال من قبيل المزاح " هل أقدم على الاستقالة" لم يكن مضحكاً أبداً وأنا أطرحه على نفسي كل صباح وكل ليلة قبل أن أنام، كان حاجة يجب تلبيتها، ولم أعلم وقتها ماهذه الحاجة المرهقة التي تدفعني للشعور بالضيق والحنق والغم كل يوم أباشر فيه وظيفتي،أقطع مسافة طويلة وأعود منها مثقلة أكثر من اليوم السابق!

انفرجت أساريري بعد أول محادثة واضحة وصريحة مع أحد أفراد عائلتي: "أريد أن أترك هذه الوظيفة بشدة، أشعر بالتعاسة"ومن الجيد أن هذه العبارة سُمعت كالتالي: أنا أحترق، أنقذني ببعض التشجيع!

مع أولى كلمات الدعم التي شعرت بها، شعرت بالشجاعة، أريد أن أفعلها الآن وليس لاحقاً. وحينما فعلتها شعرت بأن جبلاً قد أزيح من فوق ظهري! الشعور حرفيٌّ جداً، رغم أن متعهدات وظيفتي لم تكن بتلك الكثرة!

لن أكذب، تحسنت بشرتي، وكثرت ابتساماتي، والتفتُ إلى صحتي، وعاد بعض البريق إلى عيني ووجهي! لم أكن أعلم أن الاستقالة مفيدة للبشرة إلى ذلك الحد! هذا المؤشر كان كفيلاً بأن يخبرني كم كنت أحترق بشدة، وكم كنت أعافر هرباً من تلك الحقيقة طيلة هذه المدة.

صدقاً، أنا لا أشجع على الاستقالة، أرجو ألا تصل رسالتي من هذه التدوينة بشكل خاطئ، نمر جميعاً بالصعوبات أثناء مسيرتنا المهنية ونحن نرتقي السلم الوظيفي، الكد والكفاح والمثابرة أمور جيدة، أؤمن بضرورتها وأهميتها في الحياة، ولكن ركز على السلم الذي أتحدث عنه، إن لم تكن تعتليه صعوداً، فأنت في غنى عنه حينما تنزل به إلى الهاوية..فلا أنت من وظيفتك ولا أنت من بقية جوانب حياتك، عليك إيجاد سُلمٍ آخر لترتقيه..

وللأمانة، ساعدني كوني امرأة على اتخاذ القرار بشكل فوري، الالتزامات المادية كانت لتكون عائقاً أمامي قبل الإقدام على هذه الخطوة؛ دراسة الأمر بحذر أكبر وهموم أكثر.

في عملي التالي كانت الحياة أندى وأفضل، لم تكن سهلة لكنها كانت قريبة إلى نفسي، ترضي طموحاتي؛ أعيش تحقيق أهدافي ببطء وروية وبإيقاع أبطأ مما اعتدت عليه، لكنها مثمرة وصحية وهذا هو الأهم.


اختبر حقيقة "احتراقك الوظيفي":

من الطبيعي أن تحدث الكثير من الصعاب في أي وظيفة، لا مفر من التحديات، أؤمن أن كل تحد نمر به يحمل خلفه حكمة، مهارة تحتاج للتطوير، أو تعلم طريقة جديدة للتعامل مع الأمور؛ كثير من التحديات يمكن أن تطورنا وتثرينا، ولكن الأمر مختلف حينما تشعر بالاحتراق الوظيفي. 

هل أنت تحترق فعلاً؟ 

هذا السؤال مهم بشكل لا تتصوره، الهروب من مواجهة أخطائك في العمل، سرعة التململ وعدم الجدية أو تحمل المسؤولية لأنك لم تعتدها، هذه الحالات تختلف جذرياً عن الاحتراق الوظيفي، تختلف حلولها ويختلف تأثيرها على الشخص، الخلط بينها وبين الاحتراق الوظيفي قد يؤدي بك إلى تكرار شعورك المأساوي في كل وظيفة جديدة تنتقل إليها، بل سيجعلك تتوه في دوامات ومعمعة الانتقالات بخسائر متكررة ودون أن تحرز تقدماً وظيفياً في أي مكان.

ضع خطة قبل الاستقالة:

إذا كانت القيمة التي تضعها من خلف العمل هي المال، فأنت في حاجة لترتيب أمورك المالية الخاصة قبل الإقدام عليها:

محفظة متنوعة

محفظة طوارئ

إيجاد مصدر دخل إضافي


التفكير في أعمال أخرى: 

إذا كنت تفكر في الإقدام على وظيفة أخرى سيكون عليك مراجعة مهاراتك، واكتساب بعض المهارات التي تؤهلك إلى وظيفتك التالية؛ يبحث أرباب الأعمال عن الشخص الذي يعرف نقاط قوته وضعفه، سيفصح عن الأولى بالتأكيد وسيظهرها ويتألق فيها، أما نقاط ضعفه فهي ثغرات لكنه قادر على ملاحظتها ويسعى لتحسينها على الدوام، حسّن مهاراتك لتخدم نفسك في المقام الأول؛ لتصبح الأمور أسهل وتحظى بتجربة أفضل.

ابدأ من حيث تشعر بقوتك:

ستبدأ وظيفة جديدة؟ روج لنفسك بطريقة ذكية، المهارات التي تتقنها يجب أن تكون أولى المهارات التي تروج لها أو تعرضها، المصداقية هنا لن تنتزع بل ستكون حاضرة، كل ما عليك فعله هو إبراز نقاط قوتك التي يمكن أن تكون مطلوبة في الوسط الذي تعمل فيه.

لا تأمن، واصل التعلم والتطور: 

إذا استقلت لمشكلة معينة، فحاول حلها حتى تتفادها في وظيفتك القادمة، أو تتعلم التعامل معها بطريقة مهنية أكبر.

بالنسبة لي فأي عمل عملته بعد استقالتي، نويت فيه أن أتعلم منه، العمل مكان جيد لاكتساب مهارات لا يمكنني اكتساب من دائرة العلاقات الاجتماعية مثلاً! لكن يكون من الرائع أن أتعلم مهارات عملية تخدمني في علاقاتي الاجتماعية.

استقيل، دون أن تعطل علاقاتك الماضية ودون أن تجيء على نفسك.

دع الباب موارباً، لا تخرج خاسراً أو متنازلاً بالكامل عن مكتسباتك، اجعل هنالك مسلكاً طيباً ينفذ بينك وبين زملائك السابقين، ولكن دون أن يكون ذلك على حساب مبادئك أو نفسك...

في الأخير، تجربة الاستقالة تجربة مشابهة لمراحلنا العمرية، تملك نفس كينونة المشاعر والتحديات مع أنفسنا والمحيطين وتأثير ذلك على شخصياتنا واضح، الإقدام عليها ليس بتلك السهولة، فتأمل وفكر قبل أن تفعلها، ربما تحتاجها بشدة وربما العكس..




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بعد خمسة عشر عاماً من المحاولة، نجحت في صناعة كعكة أحلامي!

سحر الروتين | منافع الروتين وأثرُهُ الإيجابيّ على حياتنا العائلية والشخصية!

أكذوبة التوازن في مجالات الحياة، قبول الضعف البشري