الإنسان دائرة؟ أمي في زيارةٍ لبيت أهلها !

 

بدأ الأمر عندما وصلنا حدود المكان المنشود، في طريقٍ طويلٍ من السفر براً بلغ أربعَ ساعات؛ أربعُ ساعاتٍ من الأحاديث العائلية تتخللها استراحات قصيرة، بعدها سافرنا في بعض لحظاتنا الصامتة عبر الزمان، إلى الماضي والذكريات..

كانت هذه زيارتي الأولى منذ فترة طويلة جداً إلى بيت جدي، في بلدة قابعة على التفافة إحدى الهضاب، والتي كنا نسميها "جبلاً"عندما كنا صغاراً، لكنه كان هضبة! وهذا ما يفسر الدفء المعنوي الذي تنعم بها تلك البلدات المتناثرة حولها مع برودة المكان!

في تأملٍّ وجوديّ، انغمست فيه قبل شهرين ماضيين، كنت أتساءل، كيف يبدأ الإنسان حياته ضعيفاً ليؤول في نهايتها إلى ضعفٍ مختلف عند الكبر؟ كأنها نقطة البداية التي انطلق منها. لكن الدائرة تتوقف هناك، هذه الدائرة تدور في مشهد الطفلة التي ما أن تصبح أماً حتى تصير فجأة شبيهة لأمها في أمومتها كما لم تكن من قبل، وربما تطابقت جميع الملامح والحركات والطباع.

 تتذكر أمي جدتي وهي شابة، وأخبرتني أن خالتي صارت تشبهها كثيراً، بالمقابل يخبرني الكثيرون أني أبدو كأمي عندما كانت في هذا العُمُر، وأنا أعتقد أن جميع صديقاتي اللواتي أعرفهن يعتقدن أنهن صرن مثل أمهاتهن في القلق والحنان والاهتمام من بعد الأمومة، وهذه أيضاً دائرة!

ولأنه لا يمكن لعقلي أن ينظر أبعد من عَظَمة تجربة الأمومة في مرحلتي الحالية، أترك لكم أن تتأملوا الدوائر الأخرى في الحياة، مما لا يسعفني التقاط تسلسلها أو حصرها في تدوينة واحدة.. 
 
بعد أول ليلة بتناها استيقظتُ فجراً، أول فجرٍ منذ زمن طويل، أخبرتني أمي بصراحة أنها عاجزة عن العودة للنوم، أردت لو أخبرها بأن تحاول أن تنام لأن أمامها نهار طويل من الزيارات والتجهيز للمناسبة وهي لم تنم مدة كافية الليلة الماضية، لكني تراجعت، في تلك اللحظة أدركت، كم تشعر أمي بلحظات السعادة والحماس حتى طار النوم من عينيها! 

لا ألوم أمي في حب الصباح، أذكر ذلك مرة أخرى في كتاباتي، ولكن في هذه الرحلة بالذات، علمت لم يبدو الصباح جميلاً في عينيّ وتأكدتُ ممن ورثته بالذات؟! لا يمكنك أن تفوّت صباحاً ساحراً من صورة الطبيعة كالذي في بيت جدي..! 

إن أمي تهمس بجميع التفاصيل في حوار متواصل من الملاحظات المنبهرة، وكأنها تشهد يوماً في بيت أهلها لأول مرة! "نوستالجيا" ووابل من الحنين تفعّلا في ذهنها منذ دخولنا ضواحي بلدة أهلها حيث مسقط رأسها، كان الوقت عصراً حينها، وكانت أشعة الشمس قبل الغروب تُحفز مشاهد الطفولة في ذاكرتها؛ أشعة الشمس وهي تغمر أشجار النخيل والسدر، النسيم العليل يحف بأوراقها وسعفها، وبعض الأصوات المتداخلة مع رائحة التربة والزرع المألوفة.

تقول أمي "في مثل هذا الوقت في طفولتنا كنا نفعل كذا وكذا.."، وبينما تسرد أمي الكلام تباعاً، أشرد بجزء من تفكيري إلى خيالي وهو ينسج صورتها: طفلة صغيرة، كيانٌ مختلف، خبرة غضة، أولويات طفولية، والدان يرعانها، أصدقاء لا نعلم عنهم شيئاً لكنهم يعرفونها حق المعرفة أكثر منا في تلك المرحلة.. طفلي ربما سيحكي عن طفولته دون أن يسعف أبناءه الإلمام بنفس التفاصيل التي كانت فارغة عندما تخيلتُ أمي.. 


ولكن صوت يخبرني أنها ستدور بالنسبة لي، ويبدو أني سأصير ذات يوم مثل أمي أحتاج أن أبح بصوتي أو أهمس به حتى لا يستقيظ الآخرون في سبيل مشاركة لحظات السعادة باسترجاع الذكريات مع أحد أطفالي..

هذه الدائرة حقيقة ترادفها بعض الأسئلة: هل تتكرر جميع الدوائر؟ بنفس السياق ؟هل تصمد كلها؟ هل تُكسر بعضها؟ أم هل يمكن تحسينها حتى لو تكررت بالطريقة التي تشبهنا؟ 

إذا كنت تستطيع أن ترى لمحة من وجه مستقبلك، ما الذي يمكن أن تقرر تغييره أو تحسينه لتبدأ العمل عليه من الآن؟ 

سؤال قد يحتاج لكثير من الوقفات للإجابة عليه،لكنه سؤال مصيري!

تعليقات

  1. أهلا ايتها الصباحية! لا اعلم عن باقي الناس و لكن انا ارى نفسي دائرة مثلما ذكرتِ، كلما اكبر اعود في منحنى الدائرة و اتحول تدريجياً الى امي، احن لها و افهمها اكثر و ارى ان بيننا الكثير من الصفات المشتركة التي لم اكن اراها سابقاً، حتى شكلي اصبح يشبهها بطريقة ما بالرغم من اني اشبه واالدي اكثر! يا سبحان الله! لعل الدوائر هي اقدارنا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بعد خمسة عشر عاماً من المحاولة، نجحت في صناعة كعكة أحلامي!

سحر الروتين | منافع الروتين وأثرُهُ الإيجابيّ على حياتنا العائلية والشخصية!

أكذوبة التوازن في مجالات الحياة، قبول الضعف البشري